• مرحبًا بكم في موقع إعداد المفتين عن بُعد - دار الإفتاء المصرية

أنت هنا

الرئيسية » آداب المفتي والمستفتي

آداب المفتي والمستفتي

  1. آداب المفتي
  2. آداب المستفتي
...

آداب المفتي:

    ينبغي أن يتحلَّى الْمُفتي بكثير من الآداب، ولأن تلك الآداب غير محصورة نذكر جملة منها بالنَّقل عن الأئمة والعلماء:
 1. فمن ذلك ما نبه عليه الإمام أحمد من أمور، فقال: «لا ينبغي للرجل أن  يُنصِّبَ نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له علم، وحلم، ووقار، وسكينة. الثالثة: أن يكون قويًّا على ما هو فيه وعلى معرفته. الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس».
 2. ولا تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالما بما يبلغ صادقًا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله.
 3. كما ينبغي عليه أن يحسن زيه، مع التقيد بالأحكام الشرعية في ذلك، فيراعي الطهارة والنظافة، واجتناب الحرير والذهب والثياب التي فيها شيء من شعارات الكفار، ولو لبس من الثياب العالية لكان أدعى لقبول قوله؛ ولأن تأثير المظهر في عامة الناس لا ينكر، وهو في هذا الحكم كالقاضي.
 4. كما ينبغي عليه أن يحسن سيرته، بتحرِّي موافقة الشريعة في أفعاله وأقواله؛ لأنه قدوة للناس في ما يقول ويفعل، فيحصل بفعله قدر عظيم من البيان؛ لأن الأنظار إليه مصروفة، والنفوس على الاقتداء بهديه موقوفة.
 5. كما ينبغي عليه كذلك أن يصلح سريرته ويستحضر عند الإفتاء النية الصالحة من قصد الخلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الشرع، وإحياء العمل بالكتاب والسنة، وإصلاح أحوال الناس بذلك، ويستعين بالله على ذلك، ويسأله التوفيق والتسديد، وعليه مدافعة النيات الخبيثة من قصد العلو في الأرض والإعجاب بما يقول، وخاصة حيث يخطئ غيره ويصيب هو، وقد ورد عن سحنون: فتنة الجواب بالصواب أعظم من فتنة المال.
 6. وعليه أن يكون عاملا بما يفتي به من الخير، منتهيًا عما ينهى عنه من المحرمات والمكروهات، ليتطابق قوله وفعله، فيكون فعله مُصدقًا لقوله مؤيدًا له، فإن كان بضد ذلك كان فعله مُكذبًا لقوله، وصادًّا للمستفتي عن قبوله والامتثال له، لما في الطبائع البشرية من التأثر بالأفعال، ولا يعني ذلك أنه ليس له الإفتاء في تلك الحال، إذ ما من أحدٍ إلا وله زلة، كما هو مقرر عند العلماء أنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرًا منتهيًا، وهذا ما لم تكن مخالفته مسقطة لعدالته، فلا تصح فتياه حينئذ.
 7. كما يراعي أن لا يفتي حال انشغال قلبه بشدة غضب أو فرح أو جوع أو عطش أو إرهاق أو تغير خلق، أو كان في حال نُعاسٍ، أو مرض شديد، أو حَرٍّ مُزعجٍ، أو بردٍ مؤلمٍ، أو مدافعة الأخبثين ونحو ذلك من الحاجات التي تمنع صحة الفكر واستقامة الحكم؛ لأن الفتوى تبليغ حكم شرعي، فهو كالحكم بين الناس، فيستمع لنصيحة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول: «لا يقضين حَكمٌ بين اثنين وهو غضبان»[أخرجه البخاري]، فإن حصل له شيء من ذلك وجب عليه أن يتوقف عن الإفتاء حتى يزول ما به ويرجع إلى حال الاعتدال.
 8. فإن أفتى في حال انشغال القلب بشيء من ذلك في بعض الأحوال وهو يرى أنه لم يخرج عن الصواب صحت فتياه وإن كان مخاطرًا لكن قيده المالكية بكون ذلك لم يخرجه عن أصل الفكر. فإن أخرجه الدهش عن أصل الفكر لم تصح فتياه قطعًا وإن وافقت الصواب.
 9. وإن كان عنده من يثق بعلمه ودينه فينبغي له أن يشاوره، ولا يستقل بالجواب تساميًا بنفسه عن المشاورة، وعلى هذا كان الخلفاء الراشدون، وخاصة عمر رضي الله عنه، فالمنقول من مشاورته لسائر الصحابة أكثر من أن يحصر، ويرجى بالمشاورة أن يظهر له ما قد يخفى عليه، وهذا ما لم تكن المشاورة من قبيل إفشاء السر فإن المفتي كالطبيب يطلع من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيره، وقد يضر بهم إفشاؤها أو يعرضهم للأذى فعليه كتمان أسرار المستفتين، ولئلا يحول إفشاؤه لها بين المستفتي وبين البوح بصوره الواقعة إذا عرف أن سره ليس في مأمن.
10. كما ينبغي للمفتي مراعاة أحوال المستفتي، ولذلك وجوه، منها:
    أ - إذا كان المستفتي بطيء الفهم، فعلى المفتي الترفق به والصبر على تفهم سؤاله وتفهيم جوابه.
    ب - إذا كان بحاجة إلى تفهيمه أمورًا شرعية لم يتطرق إليها في سؤاله، فينبغي للمفتي بيانها له زيادة على جواب سؤاله، نصحًا وإرشادًا، وقد أخذ العلماء ذلك من حديث أن بعض الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر، فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»[أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الحاكم]، وللمفتي أن يعدل عن جواب السؤال إلى ما هو أنفع، ومن ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة:215]. فقد سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلم عن المنفق فأجابهم بذكر المصرف إذ هو أهم مما سألوا عنه.
    ج - أن يسأله المستفتي عما هو بحاجة إليه فيفتيه بالمنع، فينبغي أن يدله على ما هو عوض منه، كالطبيب الحاذق إذا منع المريض من أغذية تضره ودله على أغذية تنفعه.
    د - أن يسأل عمَّا لم يقع، وتكون المسألة اجتهادية، فيترك الجواب إشعارًا للمستفتي بأنه ينبغي له السؤال عما يعنيه مما له فيه نفع ووراءه عمل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كانوا يسألون إلا عمَّا ينفعهم، وقال ابن عباس لعكرمة: «اخرج يا عكرمة فأفت الناس، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك الناس».
11. وكذلك يترك الجواب وجوبًا إذا كان عقل السائل لا يحتمل الإجابة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟»[أخرجه البخاري]، وقال ابن مسعود: «ما أنت بمحدثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»[أخرجه مسلم].
12. ومن الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المفتي، والتي قد تصل إلى الشروط في أيامنا هذه، التيسير على الناس، وإدخالهم في دين الله، وإلقاء الستر عليهم، والعمل على جعل الناس متبعين لقول معتبر في الشرع، فذلك خير لهم من تركهم للدين بالكلية، وإيقاعهم في الفسق، مما يعد صدًّا عن سبيل الله من حيث لا يشعر العالم.
13. وعلى المفتي أن يكون حريصًا على الأخذ بما عليه الأئمة الأربعة لا يخرج عنهم جميعًا إلا في أضيق الحدود، كأن أتت نوازل مستحدثة نتيجة تغير العصر، أو احتاج الناس لتحقيق مصالحهم إلى غير مذاهب أولئك الأئمة الأعلام، فينتقل من فقههم إلى الدليل الشرعي مباشرة، أو إلى الفقه الإسلامي الرحيب بأئمته الذين تجاوزوا الثمانين مجتهدًا، ثم إلى فقه الصحابة الكرام الذين تصدروا للفقه، ونقل عنهم في أمثال مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والمغني لابن قدامة والمجموع للنووي ونحوها، كل ذلك مع الحرص على الاستئناس بما عليه المجامع الفقهية، كمجمع البحوث الإسلامية، ومجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة ونحوهما، وكذلك ما عليه الجماعة العلمية بالجامعات الشرعية في بلاد المسلمين، ويكون التخير في كل ذلك مبنيًّا على أن القول له دليل معتبر وأنه يحقق مصالح الناس ويرفع الحرج ويمكِّن لنشر صحيح الإسلام والدعوة إليه ويحبب الخلق في الخالق ولا يكون حجابًا بينهم وبين ربهم.

 

...

آداب المستفتي:

أ ـ آداب واجبة عند السؤال:

1. اجعل للسؤال عن حكم الشرع قيمة كبيرة وحرمة في نفسك؛ فلا تركض وراء المفتي لتستفتيه في الطرقة مثلا، ولا تهتف به مِن خلفه أدبًا معه؛ فإنما يُنادَى من الخلف البهائم، كما أوصى الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه تلميذه بذلك.
    2. جَرِّد نفسك لطلب الحق والصواب، وهيئها لقبول الحكم الشرعي ولو كان على غير هواك؛ فإن المفتي مكلف ببيان دين الله كما يعلمه، سواء أوافق ذلك هوى الناس أم خالفهم، ولا تتصور أن إنسانًا عاقلا يقبل أن يبيع دينه بدنيا غيره، وحتى لو لم تقتنع بالفتوى وغلبتك نفسك على قبولها فتأدب في تلقيها وانصرف راشدًا من غير استنكار ولا رفع صوتٍ حتى يفتح الله تعالى عليك في فهمها.
    3. إذا سألت فاسأل سؤال مُستفهِم يريد معرفة الحكم الشرعي، ولا تتحرج من السؤال عما لا تعلمه، وليكن سؤالك مهذبًا وواضحًا، أما إن سألت تعنتًا أو امتحانًا أو تعجيزًا فلن يبارَك لك فيما تسمعه؛ لأنك تغلق بذلك على نفسك، كما قال مجاهد رحمه الله: «لا يتعلم العلم مستَحْيٍ ولا مستكبر»[رواه البخاري تعليقًا].
    4. فرِّق في الاستفتاء في أمور الأحوال الشخصية بين السؤال عن الحكم الشرعي وبين حكاية المشكلة الاجتماعية التي لا تأثير لها في معرفة الحكم الشرعي، واقتصر في ذلك على ذِكْر ما يرشد المفتي إلى كونه مؤثرًا في الوصول إلى الحكم الصحيح؛ مراعيًا بذلك وقت غيرك ممن يشق عليه الانتظار.
    5. هناك من الأسئلة ما يجب فيه حضور صاحبه ليسأل بنفسه، ولا يكفي حضور شخص آخر للسؤال بدلا عنه، كألفاظ الطلاق مثلا؛ فإن المفتي يحتاج فيها إلى الاستفسار عن لفظ الطلاق ونيته وظرف صدروه وغير ذلك مما تتوقف عليه الفتوى، فإذا صدر من الزوج لفظ طلاق فهو المكلف بالسؤال عن حكم الشرع فيه لا زوجته ولا غيرها؛ لأن الشرع حـمَّله هو أمر الطلاق والنية فيه، وإذا أخبر زوجته بالفتـوى فلتصدقه؛ لأن الشـرع لم يكلفها بأن تشق عن صدره لتعرف ما إذا كان صادقًا أو كاذبًا في نفس الأمر، وإن كان كاذبًا فالإثم عليه وحده ولا إثم على الزوجة ولا حرج.
    6. إذا كذب المستفتي في سؤاله وذكر ما يخالف الحقيقة فإن فتوى المفتي لا تحلل له حرامًا ولا تحرم حلالا؛ لأن الفتوى على الظاهر والله يتولى السرائر، والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِى لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»[متفق عليه]، فاتق الله تعالى وراقبه في سؤالك.
7. لا تكثـر من السـؤال والتـنقير فتشدد على نفسك وعلى الناس، واشـتغل بالسؤال في الأصول عن المسائل والصور والافتراضات؛ فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة: 101]، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ وَنَقَّرَ عَنْهُ فَحُرِّمَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ»[رواه مسلم]، ولمـا خطب عليه الصلاة والسلام في الناس وقال لهم: «أَيُّهَا النَّاسُ! قَدْ فَرَضَ الله عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» قَالَ له رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله؟ فَسَكَتَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجبه حَتَّى قَالَهَا الرجل ثَلاَثًا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله سلم: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ»، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وآلـه وسلم: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ؛ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ»[متفق عليه]، والمـراد: الأخذ بظاهر الأمر وعدم الإكثار من الاستقصاء والاستكشاف كما فعل أهل الكتاب في قصة البقرة؛ شدَّدُوا فشُدِّدَ عليهم.

 

...

ب ـ الأدب في مجلس الفتوى:

 1. إذا دخلت على من يفتيك فاحفظ أدبك معه وعَظِّمْ حُرْمة مجلس الإفتاء؛ فإن المفتي يبلغك دين الله تعالى، والأدب مع المبلِّغ أدبٌ مع المبلَّغ عنه سبحانه، واحذر أن تتكبر عليه بجاهك أو منصبك أو مالك أو سِنِّك، فشرف العلم فوق كل شرف، والعلماء هم ورثة الأنبياء، وتوقيرهم واحترامهم ومعرفة أقدارهم تعظيم للشرع الشريف وسببٌ للخير والثواب في الدنيا والآخرة، وقد أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ننـزل الناس منازلهم.
 2. هذِّب لسانك وجوارحكَ في مجلس الفتوى بأدب الإسلام كما نصَّ عليه العلماء:
      * فلا تتكلم بأسلوب غير لائق.
      * ولا ترفع صوتك على الشيخ.
      * ولا تومئ بيدك في وجهه.
      * ولا تعبث في ثيابك أو أطرافك.
      * ولا تتكلم حتى يُطلَب منك أو يؤذَن لك.
      * ولا تتكلم مع صاحبك أو تتهامس معه.
      * ولا تَحْكِ الكلام البذيء الذي يتنافى مع قدسية المكان وحرمته.
      * ولا تكثر من الكلام لغير حاجة.
      * ولا تشغل نفسك بشاغل أمام المفتي فهو قد حبس وقته لك.

...

ج ـ الأدب مع المفتي وفتواه:

1. إذا أجابك المفتي فأَقْبِلْ بعقلك وقلبك وجوارحك عليه، وأَصْغِ إليه حتى  تستوعب كلامه، ولا تحوجه إلى تكرار الفتوى مرة بعد أخرى؛ فإن ذلك يستنفد الجهد والوقت.
2.نص أهل العلم على أن للمفتي التعزير كما للقاضي؛ فإذا شَدَّدَ عليك المفتي في إرشادك ونصحك فيما خالفت فيه الشرع فالزم الأدب معه، ولا تكن ممن إذا قيل له: اتق الله؛ أخذته العزة بالإثم.
3.إذا أبطأ عليك المفتي في الفتوى -شفهية كانت أو مكتوبة- فلا تعجل عليه، بل إنه قد يطلب منك ترك السؤال لعرضه على العلماء ومشاورتهم؛ فإن من شأن المفتي أن يتثبت وألا يسرع بالإجابة قبل استيفاء الفتوى حقها من النظر والفكر؛ فالفتوى تمر بأربع مراحل: التصوير، والتكييف، وبيان الحكم الشرعي، وتنـزيله على الواقع؛ فلا تظن أن الإسراع دائمًا براعة والإبطاء عجز ومنقصة؛ فلأن يبطئ المفتي فيصيب خير من أن يعجل فيخطئ.
يقول التابعي الجليل عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُسأَلُ أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا... حتى ترجع إلى الأول».
وهذا الإمام مالك رضي الله عنه؛ ربما كان يُسأَل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها. وأتى رجل إلى الإمام سحنون فسأله عن مسألة، فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام: مسألتي أصلحك الله! اليوم ثلاثة أيـام! فقال له: وما أصنع لك ياخليلي؟ مسألتك معضلة، وفيها أقاويـل، وأنا متحير في ذلك! فقال له: وأنت-أصلحك الله- لكل معضلة، فقال له سحنون: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لك لحمي ودمي إلى النار، ما أكثرَ ما لا أعرف! إن صبرتَ رجوتُ أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامضِ تجاب في مسألتك في ساعة، فقال: إنما جئتُ إليك ولا أستفتي غيرك، فقال له: فاصبر عافاك الله. ثم أجابه بعد ذلك.
4. قد يُشكِل على المفتي معنًى في المسألة التي تُعرَض عليه لعِلَّةٍ خفيةٍ يغيب عنه التفطن لها، فيمسك عن الجواب حتى يُفتَحَ عليه فيها، فلا تظن هذا قدحًا في علمه وأهليته للفتوى حتى ولو أجاب عنها من هو أقل منه علمًا؛ فقد يُفتح على المتعلم ما لا يُفتح على العالم، والعلم مواهب، وفوق كل ذي علم عليم.
ويكثر هذا في باب المعاملات والعقود التي تمتاز بدقة الفتوى فيها واحتياجها إلى التأنِّي ومزيد البحث والنظر، بالإضافة إلى تغير العصر وتطور الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة وما يستتبع ذلك من تطور معنى الغرر والضرر.
والقصة الآتية التي حكاها الإمام الماوردي عن نفسه تبين هذا المعنى حيث يقول رحمه الله تعالى: صنفتُ في البيوع كتابًا، جمعتُ له ما استطعتُ من كتب الناس، وأجهدتُ فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل وكدت أُعجَب به وتصورت أنني أشد الناس اطلاعًا بعلمه حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان، فسألاني عن بيعٍ عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لشيء منها جوابًا، فأطرقت مفكرًا بحالي وحالهما معتبرًا، فقالا: أما عندك فيما سألناك جواب وأنت زعيم هذه الجماعة؟ قلت: لا، فقالا: إيهًا لك. وانصرفا، ثم أتيا من قد يتقدمه في العلم كثيرٌ من أصحابي، فسألاه؛ فأجابهما مسرعًا بما أقنعَهما، فانصرفا عنه راضيَيْنِ بجوابه، مادحَيْنِ لعلمه، فبقيت مرتبكًا، وإني لعلى ما كنتُ عليه في تلك المسائل إلى وقتي، فكان ذلك لي زاجرَ نصيحةٍ ونذيرَ عِظَةٍ.
5. ليس لك أن تطلب من المفـتي دليلـه، ولا أن تناقشه في طـريق وصوله إلى الحكم الشرعي -خاصة إذا كانت المسألة خلافية- إذ ليس من شأن المفتي أن يطيل الاستدلال والاحتجاج؛ لأن المقام مقام إفتـاء لا مقام تدريس، ولكل مقام مقال.
ثم إن طرق الدلالة وآليَّـة فهم الدليل من شأن أهل الاختصاص، والدخـول في شأن أهل الاختصاص في أي فن أو مجال -كالمريض يطالب الطبيب بسِرِّ تشخيصه وعلاجه- بابٌ لتعطيل النواميس والسنن الكونية التي خلقها الله تعـالى؛ ولذلك قالوا: قول المفتي بالنسبة للعامي كالدليل بالنسبة للمجتهد.
على أنه يجوز للمفتي أن يذكر الدليل استـئناسًا وتعليمًا إذا كان نصًّا واضحًا مختصرًا قريب الفهم، أو كان الدليل هو الإجماع، أو كانت الفتوى تصحيحًا لفتاوى أخرى خاطئة أو مفاهيم مغلوطة.
6. إذا سأَلْتَ أهلا للفتوى فليس لك أن تسأل مرة أخرى؛ حتى لا تفتح على نفسك بابًا للاضطراب والوسوسة، وحاذر من التنقل بين المفتين بحجة التأكد والاطمئنان من الفتوى؛ فإن الله تعالى لم يكلفك إلا بسؤال أهل الذكر المعتمَدين، فإذا أفتاك أحدهم فقد أديت ما عليك، ومذهبك حينئذٍ هو مذهب مفتيك.
7. اختلاف الفتوى بين أهل الفتوى المعتمَدين فيها هو بالنسبة إلى العامي اختلاف تنوع مبناه على الرحمة والسعة لا على الفرقة والشقاق، وما دمت في إطار المرجعية الدينية الصحيحة فالأمر واسع في العمل بما تراه أنسب لك وأكثر مواءمة لظروفك وأقرب إلى قلبك.
8- إذا أردت أن تتورع في مسألة خلافية فلا تُلزِم غيرك بذلك؛ فقد اتفقت كلمة الفقهاء على أن حَد الورع أوسع من حد الحكم الفقهي والحلال والحرام، وذلك لأن المسلم قد يترك كثيرًا من المباح تورعًا، وهو أمر واسع يمكن أن يصل به إلى أن يخرج من ماله كله، ولكن هذا لا يعني أن يُلزِم غيره بذلك على سبيل الوجوب الشرعي؛ فيُضَيِّق على الناس معايشهم ويعطل لهم مصالحهم ويدخـل بذلك في باب تحريم الحلال، ولا يجوز للمسلم أن يتعامل مع الناس في الظني المختلف فيه كما يتعامل مع القطعي المجمع عليه؛ و إلا دخل في البدعة بتضييق ما وسَّعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، بل عليه أن يلتزم بأدب الخلاف كما هو منهج السلف الصالح في الأمور الخلافية. وقديمًا قال سفيان الثوري رحمه الله: «إنما العلم عندنا الرخصة من فقيه، فأمَّا التشديد فيحسنه كل أحد».