• مرحبًا بكم في موقع إعداد المفتين عن بُعد - دار الإفتاء المصرية

أنت هنا

الرئيسية » آداب المفتي والمستفتي

آداب المفتي والمستفتي

ج ـ الأدب مع المفتي وفتواه:

1. إذا أجابك المفتي فأَقْبِلْ بعقلك وقلبك وجوارحك عليه، وأَصْغِ إليه حتى  تستوعب كلامه، ولا تحوجه إلى تكرار الفتوى مرة بعد أخرى؛ فإن ذلك يستنفد الجهد والوقت.
2.نص أهل العلم على أن للمفتي التعزير كما للقاضي؛ فإذا شَدَّدَ عليك المفتي في إرشادك ونصحك فيما خالفت فيه الشرع فالزم الأدب معه، ولا تكن ممن إذا قيل له: اتق الله؛ أخذته العزة بالإثم.
3.إذا أبطأ عليك المفتي في الفتوى -شفهية كانت أو مكتوبة- فلا تعجل عليه، بل إنه قد يطلب منك ترك السؤال لعرضه على العلماء ومشاورتهم؛ فإن من شأن المفتي أن يتثبت وألا يسرع بالإجابة قبل استيفاء الفتوى حقها من النظر والفكر؛ فالفتوى تمر بأربع مراحل: التصوير، والتكييف، وبيان الحكم الشرعي، وتنـزيله على الواقع؛ فلا تظن أن الإسراع دائمًا براعة والإبطاء عجز ومنقصة؛ فلأن يبطئ المفتي فيصيب خير من أن يعجل فيخطئ.
يقول التابعي الجليل عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُسأَلُ أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا... حتى ترجع إلى الأول».
وهذا الإمام مالك رضي الله عنه؛ ربما كان يُسأَل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها. وأتى رجل إلى الإمام سحنون فسأله عن مسألة، فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام: مسألتي أصلحك الله! اليوم ثلاثة أيـام! فقال له: وما أصنع لك ياخليلي؟ مسألتك معضلة، وفيها أقاويـل، وأنا متحير في ذلك! فقال له: وأنت-أصلحك الله- لكل معضلة، فقال له سحنون: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لك لحمي ودمي إلى النار، ما أكثرَ ما لا أعرف! إن صبرتَ رجوتُ أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامضِ تجاب في مسألتك في ساعة، فقال: إنما جئتُ إليك ولا أستفتي غيرك، فقال له: فاصبر عافاك الله. ثم أجابه بعد ذلك.
4. قد يُشكِل على المفتي معنًى في المسألة التي تُعرَض عليه لعِلَّةٍ خفيةٍ يغيب عنه التفطن لها، فيمسك عن الجواب حتى يُفتَحَ عليه فيها، فلا تظن هذا قدحًا في علمه وأهليته للفتوى حتى ولو أجاب عنها من هو أقل منه علمًا؛ فقد يُفتح على المتعلم ما لا يُفتح على العالم، والعلم مواهب، وفوق كل ذي علم عليم.
ويكثر هذا في باب المعاملات والعقود التي تمتاز بدقة الفتوى فيها واحتياجها إلى التأنِّي ومزيد البحث والنظر، بالإضافة إلى تغير العصر وتطور الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة وما يستتبع ذلك من تطور معنى الغرر والضرر.
والقصة الآتية التي حكاها الإمام الماوردي عن نفسه تبين هذا المعنى حيث يقول رحمه الله تعالى: صنفتُ في البيوع كتابًا، جمعتُ له ما استطعتُ من كتب الناس، وأجهدتُ فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل وكدت أُعجَب به وتصورت أنني أشد الناس اطلاعًا بعلمه حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان، فسألاني عن بيعٍ عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لشيء منها جوابًا، فأطرقت مفكرًا بحالي وحالهما معتبرًا، فقالا: أما عندك فيما سألناك جواب وأنت زعيم هذه الجماعة؟ قلت: لا، فقالا: إيهًا لك. وانصرفا، ثم أتيا من قد يتقدمه في العلم كثيرٌ من أصحابي، فسألاه؛ فأجابهما مسرعًا بما أقنعَهما، فانصرفا عنه راضيَيْنِ بجوابه، مادحَيْنِ لعلمه، فبقيت مرتبكًا، وإني لعلى ما كنتُ عليه في تلك المسائل إلى وقتي، فكان ذلك لي زاجرَ نصيحةٍ ونذيرَ عِظَةٍ.
5. ليس لك أن تطلب من المفـتي دليلـه، ولا أن تناقشه في طـريق وصوله إلى الحكم الشرعي -خاصة إذا كانت المسألة خلافية- إذ ليس من شأن المفتي أن يطيل الاستدلال والاحتجاج؛ لأن المقام مقام إفتـاء لا مقام تدريس، ولكل مقام مقال.
ثم إن طرق الدلالة وآليَّـة فهم الدليل من شأن أهل الاختصاص، والدخـول في شأن أهل الاختصاص في أي فن أو مجال -كالمريض يطالب الطبيب بسِرِّ تشخيصه وعلاجه- بابٌ لتعطيل النواميس والسنن الكونية التي خلقها الله تعـالى؛ ولذلك قالوا: قول المفتي بالنسبة للعامي كالدليل بالنسبة للمجتهد.
على أنه يجوز للمفتي أن يذكر الدليل استـئناسًا وتعليمًا إذا كان نصًّا واضحًا مختصرًا قريب الفهم، أو كان الدليل هو الإجماع، أو كانت الفتوى تصحيحًا لفتاوى أخرى خاطئة أو مفاهيم مغلوطة.
6. إذا سأَلْتَ أهلا للفتوى فليس لك أن تسأل مرة أخرى؛ حتى لا تفتح على نفسك بابًا للاضطراب والوسوسة، وحاذر من التنقل بين المفتين بحجة التأكد والاطمئنان من الفتوى؛ فإن الله تعالى لم يكلفك إلا بسؤال أهل الذكر المعتمَدين، فإذا أفتاك أحدهم فقد أديت ما عليك، ومذهبك حينئذٍ هو مذهب مفتيك.
7. اختلاف الفتوى بين أهل الفتوى المعتمَدين فيها هو بالنسبة إلى العامي اختلاف تنوع مبناه على الرحمة والسعة لا على الفرقة والشقاق، وما دمت في إطار المرجعية الدينية الصحيحة فالأمر واسع في العمل بما تراه أنسب لك وأكثر مواءمة لظروفك وأقرب إلى قلبك.
8- إذا أردت أن تتورع في مسألة خلافية فلا تُلزِم غيرك بذلك؛ فقد اتفقت كلمة الفقهاء على أن حَد الورع أوسع من حد الحكم الفقهي والحلال والحرام، وذلك لأن المسلم قد يترك كثيرًا من المباح تورعًا، وهو أمر واسع يمكن أن يصل به إلى أن يخرج من ماله كله، ولكن هذا لا يعني أن يُلزِم غيره بذلك على سبيل الوجوب الشرعي؛ فيُضَيِّق على الناس معايشهم ويعطل لهم مصالحهم ويدخـل بذلك في باب تحريم الحلال، ولا يجوز للمسلم أن يتعامل مع الناس في الظني المختلف فيه كما يتعامل مع القطعي المجمع عليه؛ و إلا دخل في البدعة بتضييق ما وسَّعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، بل عليه أن يلتزم بأدب الخلاف كما هو منهج السلف الصالح في الأمور الخلافية. وقديمًا قال سفيان الثوري رحمه الله: «إنما العلم عندنا الرخصة من فقيه، فأمَّا التشديد فيحسنه كل أحد».