• مرحبًا بكم في موقع إعداد المفتين عن بُعد - دار الإفتاء المصرية

أنت هنا

الرئيسية » شيوخ دار الإفتاء » فضيلة الشيخ أحمد محمد عبد العال هريدي » صناعة المفتى » مكانة الإفتاء وحكمه » الإفتاء بغير علم

الإفتاء بغير علم

أ ـ حكم الإفتاء بغير علم:

الإفتاء من غير علم حرام يتهاون فيه كثير من طلاب الشهرة والرياسة، فمن أقدم على ما ليس له أهلًا- من إفتاء، أو قضاء، أو تدريس - أثِم، فإن أكثرمنه وأصر واستمر فسق، ولم يحل قبول قوله ولا فتياه ولا قضاؤه.
والأدلة على حرمة الإفتاء بغير علم كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَلَاتَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَإِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾.
فهذه الآية الكريمة تشمل بمعناها من زاغ في فتواه، فقال في الحرام: هذاحلال، أو قال في الحلال: هذا حرام، أو نحو ذلك.
والأدلة من السنة كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا غَيْرَ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ» رواه الإمام أحمد وابن ماجه.وفي لفظ: «مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ» رواه أحمد وأبو داود. وقوله: «مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةُ الْأَرْضِ» ذكره ابن الجوزي في تعظيم الفتوى.
    ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»، حديث حسن.
ولأن المفتي من غير علم لا يعرف الصواب وضدَّه، فهو كالأعمى الذي لا يقلد البصير فيما يعتبر له البصر؛ لأنه بفقد البصر لا يعرف  الصواب وضده، ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾.
والمفتي الجاهل يستحق الحجر عليه، بمنعه من الإفتاء. قال ربيعة بن عبد الرحمن (ربيعةُ الرأي): ولَبعضُ من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق. وقال ابن الجوزي: يلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية. وقد أطلق بعض الفقهاء على المفتي الجاهل اسمَ: (المفتي الماجن)؛ لتجرؤه على الإفتاء مع جهله.
ومما سبق نعلم الإثم العظيم الذي يقع فيه كثير ممن يتصدون للإفتاء اليوم، وهم غير مؤهلين لهذا المنصب الجليل. ومن هذا القبيل: أن يفتي المفتي المؤهل بما لا علم له به، ويتصور هذا من المفتي المؤهل للإفتاء، غير أنه خفي عليه الحكم في بعض المسائل، فأقدم على الفتوى فيها من غير بحث واستيفاء نظر.
وغالبًا ما يقع هذا من المفتين لواحد من أمور ثلاثة: التساهل، وإظهار البراعة، والاستحياء من النسبة إلى قلة العلم بالفتوى.
والتحذير من الفتوى بغير علم لا يقتصر على الجاهل بالحكم الشرعي، بل قد يكون المفتي عالمًا بأحكام الشريعة بالقدر اللازم للإفتاء، لكنه مع هذا مقصِّر في معرفة الأعراف والعادات الخاصة ببلد المستفتي ولها تأثير في الحكم، لذا نص علماء الفتوى على أنه يحرم على المفتي أن يفتي في الأيمان والأقارير ونحوها- من الأحكام التي تنبني الفتوى فيها على العرف- من غير أن يكون عارفًا بعُرف البلد التي ينتمي إليها اللافظ.

...

ب ـ خطر الإفتاء:

تبين فيما سبق ما لمنصب الإفتاء في الدين من مكانة عظيمة، ومنزلة جليلة.وهذه الدرجة العالية للإفتاء ينبغي ألا تدفع الناس للإقبال عليه،والإسراع في ادّعاء القدرة عليه، سواء أكان ذلك بحسن نية وهي: تحصيل الثوابوالفضل، أم بسوء نية، كالرياء والرغبة في التسلط والافتخار بين الناس؛ وذلك لأنَّ الإفتاء- مع جلالة منزلته- عظيم الخطر على من يتولاه؛ لأن المفتي موقِّععن الله تعالى، ومخبرٌ بأحكام شريعته، التي أرسل الله تعالى الرسل وأنزل عليهم الكتب لأجل تبليغها للناس.
وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم- التحذير من الجرأة على الإفتاء، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ».
فالإفتاء عظيم الخطر -كما يقول الإمام النووي:- كبير الموقع، كثير الفضل؛ لأن المفتي وارث الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وقائم بفرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ؛ ولهذا قالوا: المفتي موقِّع عن الله تعالى، وقال ابن المنكدر: «العَالِم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم».
ولخطر الإفتاء وعظيم مكانته روي عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول». وفي رواية: «ما منهم من يُحدِّث بحديث، إلا ودَّ أن أخاه كفاه إياه. ولا يستفتى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا». وعن الشعبي والحسن وأبي حَصِين التابعيِّين قالوا : «إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر».
وعن الشافعي وقد سئل عن مسألة فلم يجب، فقيل له، فقال: «حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب».
    وعن الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: «لا أدري»، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه. وعن الهيثم بن جميل: «شهدت مالكًا سُئلَ عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري». وكان يقول: «من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب».

وقال أبو حنيفة: «لولا الفَرَق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ وعَليَّ الوزر». وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة مما يوضح جانبًا من جوانب عظمة الإفتاء، ومكانته في الإسلام، وقدره بين المسلمين.